مع اطلالة عام 1956م كانت وسائل الحوار التى تبنتها بعض الاتجاهات الشعبية المعارضة قد استنفذت في سبيل اقناع سلطات البحرين بالتجاوب مع المتغيرات السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في الوسط الشعبي قبيل الانتفاضة الشعبية التي اصطلح عليها بانتفاضة (الهيئة) في مارس من العام 1956م . فكانت النتيجة ان اتجه مدار الموقف السياسي الشعبي الى حسم الامور من خلال معالجة جذورها وذلك بالسعي لتقويض النظام السياسي . فالجهود والطاقات الشعبية وصلت الى طرق مسدودة . ومع كل ذلك
تمخضت عن اجتماعات قادة الهيئة التنفيذية دعوات متجاوزة للواقع الذي فرض مفاهيما جديدة ، نحو (لا شرعية النظام السياسي) ، (تلاعب السلطات بالثقة الشعبية) ، (التآمر وغلبة السلطة المطلقة) ، (السلطات لا تنسجم مع الواقع السياسي والثقافي السائد في البلاد).
وما ان وزعت المهام الادارية للهيئة حتى برز سكرتيرها العام عبد الرحمن الباكر ليمثل الاتجاه (المعتدل) مرة اخرى ، على غير نسق الواقع ليدعو الى تجميد تلك المفاهيم واعادة الكرة بتوظيف كل الطاقات في المطالبة باقامة مجلس تشريعي منتخب ، اذ قال : (دعونا نطرح حاليا كل المطالب التي قدمناها ونصر على طلب واحد هو اقامة مجلس تشريعي كل اعضاؤه منتخبين . عندما نحصل على هذا الطلب فاننا نكون واثقين من الحصول على المطالب الاخرى لان المجلس التشريعي الذي يمثل الشعب سيدرس مطالبنا بامعان) . وتمت له الموافقة من قبل اعضاء الهيئة التنفيذية العليا على مضض برغم اعتراض قائد الانتفاضة حجة الاسلام السيد على كمال الدين النعيمي الذي اصر على جذرية حركة الانتفاضة واسلاميتها .
وادرج طلب عبد الرحمن الباكر في البند الاول من المذكرة الاولى التي سلمت الى الشيخ سلمان آل خليفة حاكم البحرين انذاك . ومع ذلك لم يقيض لهذه الانتفاضة النجاح ، فالعائلة الحاكمة لاتقبل مشاطرة السلطة مع المواطنين .
وفي الخامس من نوفمبر 1956 احتلت مفارز عسكرية متعددة الجنسيات تابعة لدائرة الامن العام مناطق مختلفة من العاصمة المنامة ، ثم توجهت مفارز اخرى بقيادة الحاكم العسكري آنذاك الكولونيل البريطاني (هرمزلي) لالقاء القبض على قادة انتفاضة الهيئة التنفيذية العليا .
وفي سجن القلعة ، علم قادة الانتفاضة ان التحقيق سيجري وفق مخطط مدروس ومكمل لبعض الاجراءات الحكومية التي اتبعت في قمع الانتفاضة . ولذلك كانت اسئلة التحقيق تتركز على تهم لا تمت للواقع بصلة . وكان من بينها سؤالان وجهتهما سلطات الامن ، تضمنا تهما صريحة بحق الانتفاضة وقادتها :
ـ هل تعلم اننا اعتقلنا بعض الفدائيين التابعين لقيادتكم المركزية في الهيئة ، وقد اعترفوا امام قاضي التحقيق ، بالقيام باعمال عنف وشغب واشعال حرائق واتلاف ممتلكات عامة ؟
ما تمارسونه من اعمال عنف وشغب واشعال الحرائق اثناء التظاهرات ، هو امر غريب عن اهل البحرين ولا احد يستطيع اتقانه الا اذا كان مدربا وينتمي لتنظيماتكم السرية . لماذا اقمتم تشكيلات سرية لزعزعة استقرار الوطن وامنه ؟
وكان قائد انتفاضة الهيئة السيد علي النعيمي هو المتهم الرئيسي في التعبئة الجماهيرية المطالبة بتغيير النظام السياسي واقامة مجلس تشريعي ينسجم مع المعتقد الاسلامي . ووجهت له اتهامات بالتخريب ومحاولة اقامة بديل سياسي يحل محل حكم ال خليفة . لكن اجابات السيد النعيمي اتسمت بعرض الحقائق ، فالهيئة تنظيم شعبي والمطالب كانت مشروعة وتوزاي بين الحقوق والواجبات . ونفى السيد علي تهم الارهاب والتحريض على اعمال العنف والشغب ، وكشف هوية المحرضين والقائمين عليها ، فهم جماعة مأجورة لصالح سلطات الامن ، ارادوا باعمال العنف والتخريب تحميل الهيئة وقادتها مسؤوليتها ، وذلك لتبرير عملية ضرب الهيئة وتقويض الانتفاضة بتدخل بريطاني مباشر .
وذكر اعضاء اللجنة التنفيذية للهيئة ان السيد علي كان حريصا كل الحرص على اتباع اساليب سياسية حكيمة بعيدة المدى . ولذلك عرف عنه سعيه الدؤوب الى استقلالية الانتفاضة وجذرية مطالبها ، في وقت كانت الحكومة البريطانية في حالة صراع شديد مع القوى القومية التي كانت تحرك الشارع العربي انذاك .
واستمرت الحركة الشعبية البحرانية في نشاطها السياسي بعد تقويض انتفاضة الهيئة ، وكان الاتجاه العام هذه المرة متجاوزا لمفهوم (الاعتدال)، والدعوة اضحت صريحة بضرورة تغيير النظام السياسي الذي لم يقدر المطالب العامة العادلة . فالعائلة الحاكمة لم تتفهم الحقائق السائدة في المجتمع ، واستمرت في محاربة اي نشاط يتبنى اهدافا تطالب ببناء دولة حديثة تجب ما قبلها من قوانين مجحفة بالحقوق العامة وممارسات طالت حتى شرف وكرامة المواطنين . لكن مرحلة ما بعد انتفاضة الهيئة قد شهدت بروز تنظيمات سياسية مختلفة كانت مقيدة بفكر لا ينسجم والاتجاه العقائدي العام في البلاد ، فضلا عن انها كانت شمولية في منطقها السياسي،وتبنت بعض اهداف الهيئة المطالبة باقامة مجلس تشريعي .
وعند مدخل عقد السبعينات اعلن عن المفاجئة الكبرى ، فالحكومة عازمة على انشاء مجلس تشريعي وطني واعداد دستور للبلاد . وللوهلة الاولى ساد الابتهاج الوسط الحركي للتنظيمات السياسية ، وجرى اعتقاد بان الجهود والتضحيات والطاقات الشعبية التي بذلت لم تذهب هباء منثورا بل اتت أكلها ، والنتائج اضحت امام اعين البعض التي اخذت تفيض من الدمع . لكن اولي الالباب واصحاب العقول الكبيرة ضحكوا بملئ اشداقهم، ففي وجهة نظرهم ان العائلة الحاكمة جبلت على المناورة وتقويض اي امر يشكل امرا نظيرا لسلطاتهم . بينما تسائل الكثير عن المتناقضات التي تمارساها السلطات .
فالاعلان عن عزم الحكومة اعداد دستور وانتخاب مجلس وطني ، اعقب ثلاث حملات قمع شديدة ، حيث جرت الاولى في سبتمبر 1970م وطالت العديد من المواطنيين واستتبعت بتصفيات كبيرة للكثير من العناصر السياسية النشطة في الحرس الوطني ، وصدرت بحقهم احكام غير عادلة في محاكمات سرية . وفي الحملة الثانية التي شهدتها البلاد في اوائل عام 1972م اعلنت الحكومة من خلالها عن اكتشاف مؤامرة تستهدف نظام الحكم وانظمة سياسية اخرى في الخليج ، وشنت حملة اعتقالات واسعة طالت المئات من المواطنين واسفرت عن اعدام البعض منهم والسجن لمدد طويلة بحق الاخرين . ثم جاءت الحملة الثالثة التي ترافقت مع مرحلة الاعلان عن مشروع تبني دستور للبلاد واقامة مجلس وطني ، وانتهت هذه الحملة بعمليات اغتيال والسجن للمئات من المواطنين لمدد طويلة متفاوتة.
واتجه عدد من المثقفين البحرانين ذوي الميول السياسية الى التصور بان الاعتقالات تلك ما هي الا اوراق رابحة ارادت السلطات من خلالها ابقاء الاوضاع على حافة هاوية لسلب قدرات المواطنيين على السعي نحو انتقاد المناورة الحكومية باعداد الدستور وعرضة على العائلة الحاكمة للموافقة عليه ومن ثم عرضه على المجلس التأسيس النصف منتخب ليقوم بدور مناقشته فقط تمهيدا لدور امير البلاد بالتصديق عليه . بينما دخل العديد من المرشحين في الحملة الانتخابية وايديهم على قلوبهم ، فالامر ليس اعتياديا ، ويخفي وراءه الكثير من النيات المبيتة . وافترض بعضهم نجاح هذه الخطوة افتراضا ، اذ ان السنوات الاولى من عمر هذا المجلس ستضطره لمواجهة الحكومة . فحالة الطوارئ المفروضة وحملات الاعتقال والمداهمات التي تقدمت الاعلان عن انشاء الحياة النيابية تحمل في احشائها صاعق تفجير سياسي كبير قد ياخذ من المجلس عمرا طويلا قبل دخوله في مناقشة شوؤن التنمية ، وهو مبرر يكفي لانهاء المجلس وحله .
وكان البشبيشي المصري المستشار الحكومي في اجازته في القاهرة حينما دعته حكومة البحرين الى صياغة مراسيم دستورية لحل المجلس الوطني . من جهة اخرى اجرت الحكومة اتصالات عديدة مع الدول الخليجية والمنطقة العربية لابلاغها عن هذه النية ، وجندت العديد من الصحفيين العرب لتغطية هذا الاجراء بما يتلائم والمخطط الحكومي .
وفي صباح يوم السبت 23 اغسطس 1975م نفذت سلطات الامن حملة مداهمات اسفرت عن اعتقالات واسعة شملت اكثر من 200 مواطن لم تملك الحكومة اي ادلة لادانتهم ، ثم جرى الترويج الى وجود مؤامرة للاطاحة بنظام الحكم .
وفي اليوم التالي 24 اغسطس 1975م تقدمت الحكومة بكتاب استقالتها الى امير البحرين الشيخ عيسى بن سلمان ال خليفة الذي قام بدوره في قبول الاستقالة في نفس اليوم تحت امر اميري رقم (2) . وفي 26 اغسطس 1975م اصدر الامير مرسوما برقم (14) بحل المجلس الوطني وفقا للمادة (65) من الدستور ، ثم اعقبه بامر رقم(4) ينص على تاجيل اجراء انتخابات لمجلس وطني جديد وتعطيل المادة الدستورية نفسها على ان تتولي الحكومة مهام السلطة التشريعية .
جرت كل هذه الاحداث في شهر اغسطس من العام 1975م ، مما ساهم ذلك في اثارة جدل واسع في الوسط الشعبي حول استفراد الحكومة بالقرار السياسي، وامتناعها عن اعطاء المجتمع البحراني الحق في المشاركة العامة وادارة شؤون البلاد منذ اكثر من قرنين من الزمن .
مرت هذه السنوات ببطئ شديد لتخلف ورائها تراكمات سياسية واجتماعية مختلفة وخطيرة ، سادت اتجاه الحكومة من جهة ، حيث اتخذت المذهب الامني البحت فاصلا بينها وبين المعارضة الشعبية ، فاستمرت في اصدارها للعديد من القوانين المجحفة بحق المواطنين فضلا عن انها بذلت جهودا جبارة في تفعيل القوانين سيئة الصيت السابقة لعهد الاستقلال. وسادت الاتجاه الشعبي والحركة السياسية من جهة اخرى تراكمات اسفرت عن احداث خطيرة كان ابرزها محاولات الجبهة الاسلامية لتحرير البحرين تغيير النظام السياسي واتهام السلطات لها بتدبير وتزعم انتفاضة مسلحة في العام 1981م
ما مضى من سنوات القمع ، والتي تلى بعضها حل البرلمان ، اثبتت ان العقبة امام تطور الحياة السياسية في البحرين هي طبيعة النظام السياسي القائم . فبرلمان 1973م ابرز مدى جدارة ابناء البحرين في التعاطي مع العمل السياسي والعمل الديمقراطي كشأن اداري برغم كون التجربة الديمقراطية يراد لها ان تكون قاصرة لاتتعدى المبنى الاداري للمجلس كما في نص التصريح الصحفي لرئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان الذي ادلى به في 21 اغسطس 1974م : (ليكن البرلمان هو ميدان العمل السياسي .. قولوا ما شئتم تحت سقفه ، ولكن لايجوز ان نخلط الاشياء فنشتغل بالسياسة في افران صهر الالمونيوم ، او حجرات الدراسة للطلبة ، او برج المراقبة او المستشفيات .. النواب لايذهبون الى بريطانيا ولا الى روسيا لتحريض الطلبة والعمال على الاضراب) ، كما كان يراد لها ان تكون مطية لزعزعة الثقة بين ابناء الوطن الواحد .
لكن حكومة البحرين متمثلة في رئيس وزرائها ، لم تتجاوب مع الحياة الديمقراطية وضاقت ذرعا بها وبالجهود التي بذلها العديد من النواب في سبيل الابقاء على المجلس وابطال مراهنات الحكومة . ولم يكن تصريح رئيس الوزراء مفاجئا لمن شهد انتفاضة الهيئة ودعوة الحكومة بتنازل الهيئة عن مطلبها باقامة مجلس تشريعي مقابل الاعتراف بها رسميا. ولذلك كان تصريح رئيس الوزراء بان البرلمان عقبة امام نشاط ومشروعات الحكومة كان البداية ، ثم اعرب عن شكوكه في كفاءة النواب المنتخبين حين قال : (المؤسف هو ان الفئات والنوعيات التي وصلت الى مقاعد المجلس لم تكن هي النوعيات التي من المفروض ان تتحمل مسؤليــة التجربة فهذه النوعيات في نظري غير ناضجة سياسيا وديمقراطيا) .
واستمرت الحكومة في مخططها لضرب الحركة السياسية وانهاء الحياة الديمقراطية ، فاصدرامير البحرين (مرسوما بقانون بشأن تدابير امن الدولة) حيث نص على الغاء قانون الامن العام لسنة 1965 الذي اصدر كخطوة احترازية ضد انتفاضة الطلبة والعمال في مارس 65 19م واستبداله بقانون امن الدولة سيئ الصيت ، ويتضمن فرض احكام نظام الطوارئ في الاوقات الاعتيادية . ويجيز لوزير الداخلية اعتقال المواطن المشتبة في نشاطه السياسي بدون اذن قضائي ، وابقاءه رهن الاحتجاز مدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد ، واذا تطلب الامر اخضاع المتهم للمحاكمة فانها تكون سرية ، ولا يحضرها الا المتهم والمدعي العام ، وتعقد في محكمة الاستئناف العليا التي تصدر احكاما لا استئناف لها . وقد عبرت الكتل النيابية بالاجماع عن اعتراضها على نصوص هذا القانون . فاعتبر رئيس الوزراء البرلمان عقبة ضد حركة الحكومة ومسيرة التنمية .
واما الظروف والمعطيات التي رافقت ولادة الحياة الديمقراطية اليتيمة والهشة خلال تلك الفترة التاريخية الحرجة التي شهدت بدء ولادة اول نظام سياسي في البحرين ، فهي جلية الدلالة على قصور هذه التجربة، وعدم جدية السلطات في هذه المسيرة .
اولا : على صعيد الحركة السياسية
1 - كانت البلاد في حالة من الصراع السياسي الداخلي بين الاتجاه الاسلامي - الذي بدأت معالمه كاتجاه سياسي في البروز اعقاب ثورتي التنباك والعشرين في العراق - والاتجاه الشيوعي الذي ولد في اعقاب انقلاب شاه ايران على حكومة مصدق في عام 1953م ،ولجوء عدد من اعضاء حزب تودة الايراني الى البحرين واسهامهم في تاسيس اول خلية لحزب شيوعي في العام 1955م ، والاتجاه القومي الذي نجم عن تاثيرات ثورة يوليو عام 1958م في مصر . وقد راى الاتجاه الاسلامي ان البلاد بحاجة الى نشاط سياسي وثقافي مكثف لمواجهة الامتدادات غير الاسلامية. ولذلك لم يكن هذا الاتجاه يعبأ بما اعلنه الامير باقامة حكم اميري دستوري ، ففي تصوره ان هناك صراعا اكثر اهمية من المتغيرات السياسية التي اعلنها النظام ، فالنظام الحاكم كان متجها نحو المثابرة على اللعب بميزان القوى بين الاتجاهات السياسية وتمديد الصراع بينها وتأجيجه الى حد اشغال الساحة بما لايتلائم من معارك لاستكشاف امتدادات كل الاتجاهات وامكاناتهما السياسية والمادية والمعنوية على صعيد معارضتها للنظام القائم . ومن مظاهر ذلك ، محاولاته المتكررة لترجيح كفة دون الاخرى بالسماح لاحد الاتجاهات في ممارسة نشاطه بحرية ، واعتقال كوادر الاتجاه الاخر وتوجيه تهمة شق الصفوف الوطنية اليه فضلا عن اجبارها على تجميد انشطتها السياسية .
وقد توجت السلطات الحكومية هذا الموقف بدهاء في تعاطيها مع قضية اغتيال الشيخ عبد الله المدني زعيم الكتلة الاسلامية في المجلس وامين سره ورئيس تحرير مجلة (المواقف) الاسبوعية ، وذلك بعد اقل من عام واحد من تاريخ حل المجلس الوطني . ووجهت الحكومة اصابع الاتهام الى الاتجاهات القومية الشيوعية واعتقلت اعدادا كبيرة من عناصرها ، واعدمت ثلاثة وقضت على اثنين من قادتها تحت التعذيب . وسعت من جهة اخرى لاستغلال هذا الحدث في تحييد الاتجاه الاسلامي واقناعه بعدم جدوائية الحياة النيابية باعتبارها ثغرة كبرى وعاملا في احياء الاتجاهات الشيوعية .
2- كانت الاتجاهات القومية والشيوعية المتناقضة في حالة صراع فكري وسياسي مستمر بدء مع تجاهل الاتجاه الشيوعي لقضايا الوحدة العربية وقضية فلسطين وتعاطيه الايجابي مع حزب العمل الاسرائيلي وعدم ادانته للموقف الايراني المطالب بضم البحرين الى ايران ، وتجاهل الاتجاه القومي للقضية الاممية ولشريحة واسعة من البحرانيين ذوي الاصول الايرانية ، ثم جاءت هزيمة حزيران 1967م التي شهدت تحطم الطائرات المصرية في قواعدها عند الفجر واحتلال اسرائيل للاراضي العربية لتثير جدلا واسعا حول الاتجاه الشيوعي فضلا عن امتداد الصراع بين الاتجاهين القومي والشيوعي حول المؤسسات الشعبية والاجتماعية وتسييسها ، نحو (اتحاد العمال) و(الاتحاد الوطني لطلبة البحرين) بعد ذلك. ادى ذلك الى تعمق التباين بين الاتجاهين فيما يتعلق بالموقف من المجلس الوطني .
3- رغم قوة الاتجاه الاسلامي انذاك الا ان ملامحه السياسية لم تكن قد تبلورت بشكل حديث ، ولذلك كان دخوله في العملية الانتخابية ليس ايمانا منه بجدية هذه الخطوة بل كان له غرض اخر غير ذلك . وكان يهدف الى مواجهة التنظيمات الشيوعية والقومية وعدم تركها لتستفرد بساحة البرلمان ، ولذلك وقف الاتجاه الاسلامي بكتلته ضد العديد من مشاريع هذه الاتجاهات . وكان مخطط السلطات في عملية التلاعب بميزان القوى بين الاتجاه الاسلامي والاتجاهات الاخرى ، يهدف الى الوقوف على قمة تل لكسب نظرة اكثر شمولية تمكنه من اتخاذ المخططات اللازمة في تحييد او القضاء على اي من الاتجاهات او حتى التحالف معها ان لزم الامر .
ثانيا : على صعيد اتجاه السلطات
لم تكن حكومة البحرين متوترة خوفا من الفراغ الذي تركته بريطانيا بعد تخليها عن البحرين ، ذلك ان الامر كان اعد له مسبقا ، فقد اسس وطور جهاز امن جديد بعد انتفاضة الهيئة شمل قسما مختصا في المباحث السياسية ، ثم ولدت فكرة الحياة البرلمانية واقامة الدستور لا بقصد وطني، بل ان الاعلان عن هذه الحياة هو خير اسلوب لتشتيت الساحة السياسية في ظل حالة طوارئ تغطي كامل البلاد فضلا عن كسب فرصة ذهبية لمعرفة جدارة وكفاءة جهاز الامن السياسي . وبرغم اليقين الحكومي بالنجاح في مخططها ، الا انها اتخذت العديد من الاحتياطات القانونية التي من بينها :
أ ـ متعلقات الدستور
استدعت الحكومة خبيرا قانونيا لصياغة الدستور بما يتلائم والموقف الحكومي من الاوضاع السياسية في البلاد ، ثم عرض على مجلس العائلة الحاكمة الذي ناقشه واقره . ثم تم الاعلان عن مرسوم اميري بقانون رقم 21/1972م بشأن انتخابات عامة لنصف آخر من اعضاء المجلس يضافون للنصف المعين من قبل الحكومة لتشكيل مجلس تأسيسي للمشاركة في تطوير نصوص مسودة الدستور التي اعدها الخبير القانوني ، ولم يكن التصديق على الدستور من صلاحية هذا المجلس او الشعب في اطار استفتاء عام ، بل هو من صلاحية الامير فقط . ويتناقض هذا الامر مع اول مادة دستورية في فقرتها (د) التي نصها (نظام الحكم في البحرين ديمقراطي ، السيادة فيه للشعب مصدر السلطات جميعا …) . وبذلك يكون الخرق الاول للدستور قد ارتكبه الامير نفسه عند تصديقه . كما رفض رئيس الوزراء مناقشة المجلس للدستور الا في مادتين فقط .
وحرمت المراة وشريحة كبيرة من المواطنين المعتقلين والمعارضين ،فضلا عن الموظفين في اجهزة الحكومة كالحرس الوطني والشرطة فضلا عن من هم دون سن 21 سنة من الانتخاب ، ومن هم من دون 30 سنة من الترشيح . وقد اتخذت المعارضة السياسية موقف الرفض بالاجماع لهذا الاسلوب وما اسفر عنه من دستور تضمن الكثير من الثغرات ومبررات القمع الحكومي ، من بينها ، وراثة السلطة ، صلاحية حل البرلمان يختص بها الامير دون منازع . ولعل ابرز مظاهر التلاعب في صياغة الدستور ، هي تلك المبهمات التي تتعلق بالقانون . وورد ذلك بنص (وفقا للشروط التي يبينها القانون) في الكثير من مواد الدستور المجملة . فعلى سبيل المثال ، ورد في المادة الدستورية (28) الفقرة (ب) ما نصه (الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة وفقا للشروط والاوضاع التي يبينها القانون،على ان تكون اغراض الاجتماع ووسائله سلمية ولا تنافي الاداب).
وبعد التصديق على الدستور من قبل الامير بسبعة شهور وقبيل الاعلان عن اجراء انتخابات عامة للمجلس الوطني اصدرت الحكومة في سبتمبر 1973م القانون رقم (18) الذي ينص في بعض فقراته على (حظر اي اجتماع لجمعية عمومية لناد او جمعية او عقد ندوة او حتى لقاء دون ترخيص من الشرطة بموجب طلب يتقدم به خمسة اشخاص في المنطقة المراد عقد اجتماع او ندوة فيها قبل ثلاثة ايام من عقده) دون ان يعرض هذا القانون على المجلس الوطني المنتخب . ثم طور هذا القانون بقانون اخر اكثر تفصيلا وشمولية من القانون رقم (18) وداعماله ، وصدر بمرسوم اميري رقم (21) لسنة 1989م ، وسمي بـ (قانون الجمعيات والاندية الاجتماعية والثقافية والهيئات الخاصة) .
وبذلك تكون المادة الدستورية رقم (28) قد قيدت بالقانون الذي افقدها مضامينها ، وحولها الى مادة داخلة في الواجبات الوطنية وعلى المواطنين الالتزام بها ، وليست داخلة في الحقوق التي يتوجب على الحكومة توفيرها للمواطنيين واحترامها .
وهكذا بالنسبة للنصوص الدستورية الاخرى ، حيث اضحى القانون مقيدا لـ(35) مادة دستورية . وبما ان الحكومة مستمرة في تفعيل القوانين السابقة لعهد الاستقلال ، ورفضها عرض تلك القوانين على المجلس الوطني ، فذلك يؤكد حرية تصرفها في المواد الدستورية بالطريقة التي تشاء .
ب ـ متعلقات البرلمان
كان الخرق الثاني للدستور بصفة عملية ، الاجراءات والشروط التي اعلنتها وزارة الداخلية فيما يتعلق بالانتخاب والترشيح . فالمادة الدستورية رقم (4) نصت على ان (العدل اساس الحكم . والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين ، والحرية والمساواة والامن والطمأنينة والعلم والتضامن الاجتماعي وتكافوء الفرص بين الموطنين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة) . لكن الحكومة تجاوزت هذه النصوص بحرمان المرأة من حق الانتخاب والترشيح كما حرم قطاع سكاني واسع من بينهم من هم دون سن 21 سنة من حق الانتخاب ومن هم دون 30 من الترشيح فضلا عن شريحة كبيرة من المواطنيين الذين وفد اجدادهم البحرين قبيل احتلال آل خليفة للبحرين في العام 1783م . واعطت كامل اعضاء الوزارة العضوية الكاملة في المجلس الوطني امام الاعضاء المنتخبين . واذا ما اضفنا الى ذلك تقسيم الدوائر الانتخابية غير العادل الذي جاء بقانون وفقا للمادة (43) في فقرتها (أ) ، ومنع العناصر المعارضة من الترشيح والانتخاب ، تكون دائرة التمثيل النيابي قد ضيقت الى حد اصبح فيه صوت الحكومة اعلى من صوت المجلس التمثيلي .
من هنا اتضح ان اسلوب التعاطي الايجابي مع النظام القائم في اطر ديمقراطية كان غير مجد ، كما لم ترتجى حياة حرة وكريمية من خلال اعتماد دستور 1972 ، ولعل الموقف المميز في الوسط السياسي المعارض في البحرين قد سجل لاتجاه الجبهة الاسلامية لتحرير البحرين المطالب بالتغيير الشامل فقد اعتبر النموذج الامثل الذي انسجم والواقع ، وهو الاقدر ايضا على استنباط الرؤى السليمة تجاه النظام القائم من خلال دراسة مسار الحركة السياسية والطبيعة السياسية للنظام القائم . وكان رفض الجبهة الاسلامية تأييد الحوار مع الحكومة صائبا ، الامر الذي جعلها مثالا يحتذى . وذكرت الجبهة مرارا من خلال ادبياتها ان موقف السلطات تجاه الانتفاضة المباركة غير الجاد قد برزت ملامحه السياسية منذ انتفاضة 1956م ، وعند احداث المجلس الوطني وما قبلها ازدادت ثقة بعدم جديتها ، واخيرا اعتبرت عدم الجدية مبدء سياسيا وذلك من خلال موقفها من احداث 1981م وما اعقبها من احداث خلال انتفاضة 1995م.
منقول من كتاب للاستاذ كريم المحروس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق