( الخاتمة )

- ما أشبه الليلة بالبارحة :

برغم العمق التاريخي للحركة المطلبية في البحرين فقد بقيت الأمور حتى الانتهاء من هذا الكتاب على ما هي عليه في بداية العشرينات . وبرغم الإصلاحات الإدارية التي فرضها المعتمد السياسي في البحرين : الميجر ديلي في العام 1923 على الحاكم المعزول آنذاك ، الشيخ عيسى بن علي آل خليفة ، فقد استمر النظام على أساس العقلية القبلية ولم تنجح المحاولات على مدى السبعين عاما ً الماضية في إحداث تغيير جوهري في طبيعته . وفيما عدا فترة قصيرة ما بين ديسمبر 1972 وأغسطس 1975 وهي الفترة التي شهدت المجلسين : التأسيسي والوطني ، فقد بقيت الأوضاع في توتر دائم وتراجع سياسي حال دون تقدم ملموس في العلاقة بين الحاكم والمحكومين . وما تمر به البحرين اليوم من مخاض عسير لإقامة نظام سياسي يتميز بشيء من العصرنة والتمدن مؤشر على استمرار حالة التوتر التي لم تبدأ مع العريضة الشعبية التي وقعها 25 ألف مواطن في العام 1994 بل سبقتها بسبعين عاما ً .
ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه . فهناك أطروحات حكومية بتقسيم البحرين إلى أربع محافظات يحكم كلا ً منها شخص من آل خليفة أو من إحدى المؤسستين العسكرية أو الأمنية . وهي عودة إلى وضع شبيه كثيرا بالوضع الذي كان سائدا ً في فترة ما قبل العام 1923 حيث الإصلاحات الإدارية . وقتها كان الحاكم آنذاك الشيخ عيسى بن علي رمزيا ً يحث كانت زوجته تمارس تأثيرا ً مباشرا ً على قراراته ، فيما كان أقاربه من آل خليفة يسيطرون على مناطق البحرين . فكل واحد منهم يفرض ضرائبه الخاصة على المواطنين في تلك المنطقة وله شرطته الخاصة ( الفداوية ) ومجلسه الخاص ومحكمته الخاصة . وكان على البحارنه أن يخضعوا لأوامره ولا يناقشوه في شيء من قراراته .
وكانت حالة الشعوائية هذه هي التي أدت في النهاية إلى انتفاضة البحارنه في العام 1922 لاستعادة قدر من الحقوق السياسية والمدنية . وتطلب التغيير الذي فرضه الميجر ديلي آنذاك الكثير من التضحيات والعمل المتواصل ، فقد سقط القتلى من البحارنه على أيدي المسلحين من قبيلة الدواسر في اعتداءاتهم الليلية على المناطق التي يقطنونها مثل عالي وبني جمرة وباربار وسترة . وكتبت العرائض الكثيرة ابتداءً بالعريضة التي قدمت للمعتمد السياسي في المنامة أو المقيم السياسي في بوشهر . كما أن لجوء العديد من البحارنه إلى مبنى المعتمدية فرارا ً من مطاردات فداوية الشيوخ كان من بين العوامل التي دفعت حكومة الهند البريطانية لفرض التغيير . ومن هنا فقد كان مجيء الشيخ حمد بن عيسى خطوة على طريق إنشاء السلطة المركزية التي توحدت فيها الضرائب والمحاكم وقوات الأمن الداخلي . ويبدو أن تقسيم البحرين إلى محافظات الذي طرحته الحكومة مؤخرا ً يهدف لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل ثلاثة أرباع القرن .
يضاف إلى ذلك أن ما تم تحقيقه على مدى الخمسين عاما ً اللاحقة مثل الانتخابات البلدية وانتخابات المجلس التأسيسي والوطني ، قد ذهب أدراج الرياح وعادت الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الإصلاحات . غير أن ما يجري في البحرين هذه الأيام حيث الانتفاضة الشعبية العارمة يؤكد أن الوضع الداخلي لن يستقر ما لم يكن هناك تغيير حقيقي ليس في البنية السياسية بل في العقلية الحاكمة ، فلم يعد مقبولا ً التعاطي مع شؤون المجتمع ، والعالم يودع القرن العشرين ويستقبل قرنا ً جديدا ً ، بالعقلية التي كانت تسود في مطلع القرن المنصرم . وقد أكدت الانتفاضات الشعبية التي شهدتها البحرين على مدى السبعين عاما ً الماضية وجود رغبة حقيقية في التغيير وهي رغبة طالما قمعتها الحكومة معتقدة أنها سوف تنتهي بالقمع والقتل والتشريد .
وما أشبه الليلة بالبارحة ! فما تزال أساليب القمع التي اتبعت في السابق لمواجهة التحركات الشعبية تستخدم بحذافيرها ويزيد عليها ما توفره خبرة الضابط البريطاني ، أيان هندرسون ، التي اكتسبها على مدى أكثر من نصف قرن منذ تصديه لثوار الماو ماو في كينيا . وإذا كان سلفه المستشار تشارلز بلغريف قد لجأ لسياسة الإبعاد كمخرج من الأزمات التي واجهت آل خليفة فإن هندرسون يمارس السياسة نفسها منذ أن جاء إلى البحرين قبل ثلاثين عاما ً . وإذا كان إبعاد قادة هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينات إلى جزيرة نائية في المحيط الأطلسي ( سانت هيلانة ) فإن الناشطين في حركة المعارضة قد منعوا من العودة إلى وطنهم منذ تعليق العمل بالدستور في العام 1975 ، ومنع من عاد منهم إلى البلاد من دخولها .
بل إن هندرسون سار على خطى بلجريف عندما أبعد العلماء المتصدين للعمل الشعبي في مطلع العام 1995 بعد انطلاقة الانتفاضة الشعبية وما تزال سياسة الإبعاد هذه ظاهرة مقتصرة على البحرين ، حتى أن مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تحيرت حول كيفية إدراج سياسة الإبعاد تحت أي بند من بنودها المختصة بانتهاكات حقوق الإنسان في العالم . إذ ليس هناك بلد يطرد مواطنيه ، الأمر الذي لم يتطلب في السابق الاهتمام بقضية الإبعاد . كما أن سياسة إطلاق النار على المتظاهرين المسالمين تمارس اليوم على نطاق واسع معيدة إلى الأذهان حوادث إطلاق النار على المسيرات والاعتصامات السلمية في الخمسينات والستينات .
ولكن تطورت سياسة القمع في عهد هندرسون لتشمل التعذيب حتى الموت واعتقال النساء والأطفال والاعتداء على الحرمات ، وهو تطور خطير يعكس مدى ما يمكن أن يقوم به جهاز الأمن في مواجهته لحركات الإصلاح . وقد بقي مطلب شعب البحرين الأساسي منذ الثلاثينات متمثلا ً بانتخاب مجلس تشريعي . وقد تحقق هذا المطلب في السبعينات قبل أن يلغيه الأمير لتعود الأوضاع إلى المزيد من التوتر والإضطراب . وكما هو واضح فقد أكدت الانتفاضة الشعبية المستمرة حتى صدور هذا الكتاب المطالب المشروعة والتاريخية للشعب وهي انتخاب مجلس تشريعي طبقا ً لدستور البلاد وإطلاق سراح السجناء السياسيين والسماح بعودة المبعدين ، وهي مطالب جديدة – قديمة . ومع مواجهتها من قبل الحكومة تجاوزت أساليب القمع التي كان المستشار بلغريف يمارسها ضد المواطنين ، فإن العقلية القبلية التي تحكم البلاد بقيت على ما هي عليه ولم تتطور مع ما يشهده العالم من تطورات في التوجهات وأنظمة الحكم ، ويدرك المتابعون لشؤون البحرين خلال نصف القرن الماضي أن الوضع لن يستقر ما لم يكن هناك تغيير حقيقي في العقلية التي تحكم البلاد باتجاه الاعتراف بوجود ضرورة للتغيير السياسي خصوصا ً مع النمو النوعي والكمي في مستوى الثقافة والوعي ووسائل التعبير الشعبي .
وإذا كانت العائدات النفطية التي شهدتها مرحلة ما بعد المجلس قد ساهمت في تأجيل انفجار المشكلة السياسية فإن تراجع تلك العائدات بسبب قرب موعد نضوب النفط في البحرين من جهة أخرى قد كشف الوضع الصعب على حقيقته ودفع بالأوضاع إلى المواجهة بني الطرفين : الشعب الذي يطالب بالمجلس التشريعي طبقا ً للدستور والحكومة الرافضة للتطوير السياسي . ويبدو هندرسون الرجل القوي في المعادلة السياسية كلها تماما ً كما كان سلفه : تشارلز بلجريف . ولكن برغم السياسات القمع فإن هناك قناعة لدى المراقبين ، سواء الدبلوماسيين الذين عرفوا المنطقة أو الإعلاميين الذين اهتموا بما يجري في البلاد بأن التغيير قادم لا محالة وأن محاولات تأجيله لن تفلح في منع حدوثه .

وقد أكدت فصول هذا الكتاب أن الرغبة في الإصلاح السياسي وتطوير النظام والمشاركة الشعبية في إدارة البلاد وصنع القرار السياسي دفعت شعب البحرين إلى التضامن على مر العقود ومواجهة سياسات التهميش التي تنتهجها الحكومة . وإذا كانت حكومة آل خليفة قد نجحت أحيانا ً في إثارة المسألة الطائفية كدرع بوجه المطالب الشعبية بالتغيير فإن مشروعها الطائفي لم ينجح وذلك بسبب وعي القائمين على الحركات المعارضة .
وقد اتسمت كل الانتفاضات في 1938 و 54 – 1956 و 1965 وأخيرا الانتفاضة التي لا تزال مستمرة بوحدة وطنية متميزة جعلت الحكومة في موقع ضعيف وأفشلت مخططاتها الطائفية . ويبدو أن محاولاتها في الوقت الحاضر لتمزيق الصف الوطني بالغريب والترهيب لم تفلح في إحداث الشرخ الذي يعتقد الكثيرون أن الأوضاع هذه المرة تغيرت كثيرا ً لغير صالح الحكومة خصوصا ً وأن المنطقة برمتها تشهد تحركات مطالبة بالإصلاح السياسي وأن مطالب قادة الانتفاضة المعتقلين دفعت المنظمات الدولية للاحتجاج عليها . وعليه فإن نسق الحركة المعارضة على مدى سبعين عاما ً يوحي بأن استقرار البحرين في مرحلة ما بعد النفط ( وهي مرحلة بعيدة ، بل بدأت فعلا ً ) يقتضي إجراء إصلاحات سياسية عاجلة إذا أراد آل خليفة الاستمرار في الحكم .
ويرى البعض أن مجال المناورة المتاح للحكومة لتجاوز المطالب الشعبية يضيق يوما بعد آخر ، وأن الحكم العائلي مهدد بالسقوط في حال استمرار التوتر الأمني بالوتيرة التي هو عليه الآن . ومن يقرأ تاريخ البحرين المعاصر كما هو مدون في هذا الكتاب سوف يدرك أن الحركة الجارية هذه الأيام هي الأطول فترة والأوفى نصيبا ً لتحقيق المطالب التي طرحتها الانتفاضات الشعبية في العقود المنصرمة .


( ملاحق الكتاب )

ملاحظة هامة : وجدت أن الملاحق جدا كثيرا .. لهذا آثرت الأقتصار على بضعة نماذج من كل ملحق ..

ملحق (1) : بعض الاتفافيات والرسائل المتبادلة بين الحاكم والإنجليز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق